كلمة قداسة البابا فرنسيس خلال مسيرة درب الصليب مع الشبيبة «متفرقات

 

 

شبيبة العالم الأعزاء!

 

إن السَّير مع يسوع هو دائمًا نعمة ومخاطرة.

 

هو نعمة، لأنَّه يلزمنا بالعيش في الإيمان وفي معرفته، فندخل في أعماق قلبه، ونفهم قوّة كلمته.

 

هو مخاطرة، لأنَّ في يسوع، تتعارض كلماته وأعماله وأفعاله، مع روح العالم، ومع الطموح البشريّ، ومع اقتراحات ثقافة النبذ وانعدام المحبّة.

 

هناك يقين يملأ "درب الصَّليب" هذا بالرَّجاء: لقد اجتازها يسوع بمحبّة. وعاشتها أيضًا العذراء المجيدة، هي التي أرادت منذ بداية الكنيسة أن تدعم بحنانها سبل التبشير.

 

 

 

******

 

 

 

يا ربّ، يا أب الرَّحمة، لقد رافقنا ابنك على درب الصَّليب في هذا الشريط الساحليّ، مع الكثير من الشبيبة الآتين من العالم كلّه؛ تلك الدرب التي أراد أن يمرّ بها من أجلنا، كيما يرينا مدى حبّك لنا وكم تريد مشاركتنا في حياتنا.

 

 

إنّ مسيرة يسوع نحو الجلجلة هي درب معاناة ووحدة ما زالت مستمرّة في يومنا هذا. فهو يسير ويتألّم في العديد من الوجوه التي تعاني من عدم اكتراث متكبّر ومتخدّر، عدم اكتراث مجتمعنا الذي يستهلك والذي يهلك نفسه، والذي يجهل معاناة إخوته ويجهل نفسه.

 

 

نحن أيضًا يا ربّ، أصدقاؤك، نسمح بأن تستولي علينا اللامبالاة والجمود. وغالبًا ما يهزمنا الانسياق ويشلّنا. كان من الصعب رؤيتك في الأخ الذي يعاني: فقد حوّلنا نظرنا كيلا نراه؛ والتجأنا في الضجيج، كيلا نسمع. وأغلقنا أفواهنا، كي لا نصرخ.

 

 

نفس التجربة على الدوام: من الأسهل أو من "المفيد" أكثر أن نكون أصدقاء مَن نالَ النصرَ والمجدَ والنجاح والتصفيق. ومن الأسهل البقاء على مقربة من الذين يُعتبرون شهيرين وناجحين.

 

 

كم هو سهل أن نقع في ثقافة الاستقواء والمضايقة والترهيب، والشراسة تجاه الضعيف!

 

 

ليس الأمر كذلك بالنسبة لك، يا ربّ: لقد تمثلّت عبر الصليب بكلَّ معاناة، وبكلّ من يشعر بالنسيان.

 

 

ليس الأمر كذلك بالنسبة لك، يا ربّ، لأنك أردت أن تحتضن كلّ الذين غالبًا ما نعتبرهم غير جديرين بالعناق، بالمداعبة، بالبركة؛ أو أسوأ من ذلك، لا نلاحظ حتى أنَّهم بحاجة إليها، نتجاهلهم.

 

 

ليس الأمر كذلك بالنسبة لك، يا ربّ: لأنّك، في الصَّليب، تنضمُّ إلى "درب صليب" كلّ شابّ، وكلّ وضع، كي تحوّله إلى درب قيامة.

 

 

أيُّها الآب، إنَّ درب صليب ابنك اليوم ما زال مستمرًّا:

 

يستمرّ في صرخة الأطفال المخنوقة، الأطفال الذين يُمنعون من رؤية النور، وكثير آخرون يحرمون من حقّهم في أن يكون لهم طفولة، أو أسرة، أو تربية؛ في الأطفال الذين لا يستطيعون اللعب والغناء والحلم ...

 

 

يستمرّ في النساء اللواتي يتعرّضن للمعاملة السيّئة، والاستغلال، والتخلّي عنهن، وتجريدهن، وتجاهل كرامتهن؛

 

وفي أعين الشبيبة الحزينة، والذين يرون آمالهم في المستقبل تُنتزع منهم بسبب نقص التعليم والعمل الكريم؛

 

 

يستمرّ في عذاب الوجوه الشابّة، أصدقائنا، الذين يقعون في شباك أشخاص عديمي الضمير -ومن بينهم أيضًا أشخاص يدّعون خدمتك يا ربّ- شبكات الاستغلال والجريمة والاعتداء، التي تستغلّ حياة الشبيبة.

 

 

 

يستمرّ "درب صليب" ابنك في كثير من الشبيبة والعائلات الذين يُحرمون ليس فقط من المستقبل بل من الحاضر، إذ تأسرهم دوامة الموت بسبب المخدرات والكحول والبغاء والاتجار. وكما تقاسموا ملابسك، يا ربّ، هكذا يتقاسمون كرامتهم ويعنّفونها.

 

 

يستمرّ "درب صليب" ابنك في وجوه الشبيبة العابسة والذين فقدوا القدرة على الحلم بالغد، وعلى إبداعه واختراعه، والذين "يتقاعدون" بألم الاستسلام والانسياق، وهو أحد أكثر "المخدّرات" استهلاكًا في عصرنا.

 

 

يستمرّ في ألم خفيّ، ويثير الغضب بسبب أولئك الذين، بدلاً من أن يجدوا التضامن، من قِبَلِ مجتمع مليء بالوفرة، يجدون الرفضَ والألمَ والبؤسَ، وعلاوة على ذلك يُشار إليهم ويعاملون وكأنهم سبب كلّ شرّ اجتماعي ومسؤولون عنه.

 

 

تستمرّ آلام ابنك في الوحدة المستسلمة التي يعيشها المسنّون الذين نتركهم في تخليهم واستبعادهم.

 

 

تستمرّ في السكان الأصليِّين، الذين جُرّدوا من أراضيهم، ومن جذورهم وثقافتهم، وتمّ إسكات وإطفاء كلّ الحكمة التي يملكونها والتي باستطاعتهم أن يقدّموها لنا.

 

 

يستمرّ "درب صليب" ابنك أيُّها الآب، في صرخة أرضنا الأمّ، المجروحة في أحشائها بسبب تلوّث الغلاف الجوّي، وعقم حقولها، وقذارة مياهها، والتي يدوسها الاستهزاء والاستهلاك المجنون الذي تخطّى كلّ صواب.

 

 

يستمرّ في مجتمع فقد القدرة على البكاء وعلى التحرّك إزاء الألم.

 

 

أجل، أيُّها الآب، إنَّ يسوع يواصل السَّير، وما زال يأخذ على عاتقه كلّ هذه الوجوه ويعاني من خلالها، فيما أنَّ العالم، غير مبال، وفي سخرية مريحة، يستهلك مأساة خفّته.

 

 

ونحن، يا ربّ، ماذا نفعل؟

 

 

كيف نتفاعل مع يسوع الذي يعاني، ويسير، ويهاجر في وجوه الكثير من أصدقائنا، من العديد من الغرباء الذين تعلّمنا كيف نجعلهم غير مرئيِّين؟

 

 

ونحن، يا أبا الرَّحمة،

 

هل نعزّي الربّ ونرافقه، هو العاجز والمعاني في الصغار والمتروكين؟

 

 

هل نساعده في حمل ثقل الصليب، مثل القيرواني، جاعلين أنفسنا صانعي سلام، ومبدعي عهود، وخميرة أخوّة؟

 

 

 

هل لنا الشجاعة على البقاء عند أقدام الصليب مثل مريم؟

 

 

 

لنتأمل بمريم، الامرأة القوية. نريد أن نتعلّم منها كيف نبقى واقفين بجانب الصليب. بنفس قرارها وشجاعتها، دون تهرّب أو سراب. عرفت كيف ترافق ألم ابنها، ابنك أيُّها الآب؛ وتدعمه بنظرتها وتحميه بقلبها. ألم عاشته، ولكنّه لم يحنيها. لقد كانت المرأة القوية، امرأة الـ"نعم"، التي دعمت ورافقت، وحمت واحتضنت. إنَّها حارسة الرَّجاء العظيمة.

 

 

 

نحن أيضاً أيها الآب، نريد أن نكون كنيسة تدعم وترافق، تعرف كيف تقول: أنا هنا!، في حياة العديد من المسحاء الذين يسيرون بجانبنا، وفي صلبانهم.

 

 

 

نتعلّم من مريم كيف نقول "نعم" لثبات قويّ ومستمرّ يظهره العديد من الأمَّهات والآباء والأجداد الذين لا يكلّون عن دعم ومرافقة أبنائهم وأحفادهم عندما يكونون "في ورطة".

 

 

 

نتعلّم منها كيف نقول "نعم" للصبر المتشبث ولإبداع أولئك الذين لا ييأسون، ويبدؤون من جديد في أوضاع يبدو فيها أنّ كلّ شيء قد ضاع، ويحاولون خلق مساحات، وأجواء عائليَّة، ومراكز اهتمام، تكون بمثابة يدّ ممدودة في الصعوبات.

 

 

من مريم نتعلّم القوّة لنقول "نعم" لأولئك الذين لم يسكتوا ولا يسكتون إزاء ثقافة المعاملة السيّئة والاعتداء، والتشكيك بالمصداقية، ويعملون على توفير الفرص والظروف الأمنية والحماية.

 

 

من مريم نتعلّم أن نقبل ونستضيف جميع أولئك الذين عانوا من التخلّي، والذين اضطرّوا إلى ترك أراضيهم وجذورهم وأسرتهم وعملهم، أو فقدوها.

 

 

 

مثل مريم نريد أيُّها الآب، أن نكون كنيسة، الكنيسة التي تعزّز ثقافة قادرة على الاستضافة والحماية والتعزيز والإدماج. كنيسة لا تَصِم المهاجرين بإدانةٍ، سخيفةٍ وعديمة المسؤوليَّة، تجعل منهم مصدر كلّ شرّ للمجتمع.

 

 

من مريم نريد أن نتعلّم الوقوف بجانب الصليب، ولكن لا بقلب مدرّع ومنغلق، إنَّما بقلب يعرف كيف يرافق، ويعرف الحنان والتفاني. خبير بالرَّحمة فيعامل باحترام ورقّة وتفهّم. نريد أن نكون كنيسة الذاكرة الي تحترم وتقدّر كبار السنّ وتطالب بفسحة خاصَّة بهم، كحرّاس لجذورنا.

 

 

مثل مريم نريد أيُّها الآب أن نتعلّم "الوقوف".

 

 

علّمنا يا ربّ، الوقوف عند أقدام الصليب، عند أقدام الصلبان. إفتح هذا المساء أعيننا، وقلبنا، نجّنا من الشلل والارتباك، من الخوف واليأس. علّمنا أيُّها الآب أن نقول: أنا هنا مع ابنك، مع مريم ومع الكثير من التلاميذ الأحبَّاء الذين يرغبون في قبول ملكوتك في قلوبهم. آمين.

 

 

 

 

******

 

 

وبعد أن عشنا آلام الرَّبّ، مع مريم عند أقدام الصليب، لنذهب بقلب صامت وبسلام، فرحين وبرغبة كبيرة في اتّباع يسوع. ليرافقكم يسوع وتحميكم العذراء. إلى اللقاء!

 

 

 

 

 

 

كلمة قداسة البابا فرنسيس

خلال مسيرة درب الصليب مع الشبيبة

الزيارة الرسولية إلى بنما– الشريط الساحلي

الجمعة 25 يناير/كانون الثاني 2019

 

موقع الكرسي الرسولي.